جدري القردة.. طوارئ في مواجهة الأزمة الإنسانية وضمان حقوق المرضى
جدري القردة.. طوارئ في مواجهة الأزمة الإنسانية وضمان حقوق المرضى
الحقوق الإنسانية.. كيف يكشف تفشي جدري القردة عن قصور الاستجابة العالمية؟
ارتفاع عدد الإصابات منذ بداية عام 2022 إلى 38465 حالة في 16 دولة إفريقية
حقوقي أردني: يجب عدم التمييز في الوصول للرعاية الصحية وعدم استخدام الأزمة كذريعة لتقليص الحقوق
حقوقية سورية: هذه الحالة تستدعي تحركاً عالمياً يتجاوز حدود التبرعات الطارئة والمساعدات الإنسانية
في عمق قارة تعاني العديد من الأزمات والمشكلات ولكنها تأبى إلا أن تنبض بالحياة رغم جميع التحديات، تظهر أزمة جديدة لتفرض واقعها الثقيل وآلامها على الإنسانية.
الثلاثاء الماضي كان يوماً حاسماً، حيث أعلنت الهيئة الصحية التابعة للاتحاد الإفريقي حالة الطوارئ الصحية العامة، وهي أعلى مستوى من التأهب، في مواجهة تفشي مرض جدري القردة أو "مبوكس".
هذا المرض، الذي كان لسنوات طويلة يعرف بانتشاره المحدود، أضحى الآن يهدد أمن القارة بأسرها، مسلطاً الضوء على الحاجة الملحة للتحرك العاجل.
ومنذ بداية عام 2022، ارتفع عدد الإصابات بالفيروس إلى 38465 حالة في 16 دولة إفريقية، ورافق ذلك وفاة 1456 شخصاً.
وتقص الأرقام حكايةً أليمة عن الوباء الذي يواصل اجتياح دول القارة، مع زيادة ملحوظة بنسبة 160% في الإصابات في العام 2024 مقارنةً بالعام السابق، الأرقام بشأن هذا المرض ليست مجرد بيانات، بل هي قصص معاناة وألم تلمس حياة آلاف العائلات.
في مؤتمر صحفي عُقد مؤخراً، أطلق رئيس المراكز الإفريقية لمكافحة الأمراض والوقاية منها جان كاسيا، نداءً ملؤه القلق والعزم.
وقال كاسيا، وهو يواجه كاميرات الصحافة بوجهٍ يعكس أعباء المسؤولية: "أعلن بقلب مثقل ولكن بالتزام لا يتزعزع تجاه شعوبنا ومواطنينا الأفارقة، أن جدري القردة حالة طوارئ صحية عامة تهدد الأمن على مستوى القارة".
كلمات كاسيا تجسد مستوى الخطر الذي تواجهه القارة، وأهمية العمل الفوري لتفادي المزيد من الأضرار.
التحديات لا تتوقف عند حدود الأرقام، بل تمتد إلى حياة الناس اليومية فقد تسببت هذه الأزمة في تمزق عائلات وسلسلة من الأزمات الإنسانية.
ويتنقل الفيروس بسرعة عبر الحدود، ويترك خلفه ألمًا ومعاناة في كل زاوية من زوايا القارة، "هذا الإعلان ليس مجرد إجراء شكلي، بل هو دعوة واضحة إلى التحرك"، وشدد كاسيا، على أهمية أن نكون استباقيين في مواجهة هذا التهديد الذي بات يلامس كل ركن من أركان القارة.
وتثير سلالة جديدة من الفيروس، رُصدت لأول مرة في جمهورية الكونغو الديمقراطية في أيلول 2023، مخاوف كبيرة من هذه السلالة، التي تُعدّ أكثر فتكًا وانتشارًا من سلالات سابقة، وظهرت في بلدان مختلفة تشمل المغرب ومصر والسودان وساحل العاج وليبيريا ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا وكينيا وموزمبيق وجنوب إفريقيا. وحسب البيانات، فإن معدل الوفيات بسبب الفيروس يتجاوز 3%، والأطفال دون سن 15 عاماً يمثلون حوالي 60% من المصابين، مما يضع عبئًا كبيرًا على النظام الصحي والموارد المحدودة.
تاريخيًا، تم اكتشاف الفيروس لأول مرة لدى البشر في جمهورية الكونغو الديمقراطية عام 1970، حيث كانت الإصابات مقتصرة على بلدان غرب ووسط إفريقيا من خلال الحيوانات المصابة ومع ذلك، في عام 2022، تطور الوضع إلى وباء عالمي، حيث انتشر المتحور "كلاد2" في نحو مئة دولة لم يكن المرض متوطناً فيها، وأثر بشكل رئيسي على الرجال المثليين والرجال الذين مارسوا الجنس مع عدة شركاء.
وفي محاولة لاحتواء تفشي جدري القردة، أعلنت منظمة الصحة العالمية في 23 يوليو 2022 أعلى مستوى من التأهب. ورغم رفع المنظمة لهذا التأهب في مايو 2023، فإن الوباء قد أدى إلى وفاة 140 شخصاً من بين نحو 90 ألف إصابة، هذا التقييم يبرز حجم التحدي الذي يواجه العالم، ويؤكد ضرورة اتخاذ خطوات ملموسة وعاجلة للتصدي للتهديد.
الخطوة التالية هي ضرورة الطلب من الدول الإفريقية تمويلًا للحصول على لقاحات وموارد لمواجهة الوباء.
ويعكس هذا الإعلان من الهيئة الصحية التابعة للاتحاد الإفريقي حجم الأزمة، ويشير إلى الحاجة الملحة للتعاون الدولي في التصدي لها، ففي قلب هذه الأزمة، تبقى الإنسانية على المحك، وتبقى قارة إفريقيا متمسكة بأمل النهوض والشفاء من أزماتها.
جدري القردة.. وباء عالمي
جدري القردة، الذي يُعرف أيضًا باسم "مبوكس"، هو مرض معدٍ نادر تسببه فيروسات تنتمي إلى عائلة الجدري، أول مرة تم اكتشاف المرض كان في عام 1970 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث ظهرت الأعراض على طفل يبلغ من العمر 9 سنوات.
ومنذ ذلك الوقت، ظل جدري القردة محدودًا في انتشاره جغرافيًا، مقتصرًا في البداية على مناطق غرب ووسط إفريقيا، حيث كان المرض يُنتقل من الحيوانات المصابة إلى الإنسان عبر ملامسة جسدية وثيقة.
ووفقًا لتقارير، فإن الفيروس المسبب لجدري القردة ينتقل بشكل رئيسي من الحيوانات البرية إلى الإنسان، خاصة من القردة، والتي تُعدُّ من المصادر الرئيسية للفيروس. أما عن الأعراض، فهي تشمل الحمى، والأوجاع العضلية، والتهابات جلدية تظهر على شكل دمامل تشبه الجدري. المرض بمروره عبر التاريخ، لم يكن يتسبب في حالة من الوباء واسع النطاق؛ حيث كان محصوراً في مناطق محددة.
بدأ المرض يتسرب إلى نطاق أوسع مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. في عام 2022، شهد العالم تحولًا ملحوظًا في مسار تفشي جدري القردة، فقد انتشر الفيروس بشكل واسع في أكثر من مئة دولة لم يكن المرض متوطناً فيها من قبل.
كان الانتشار الجديد مدفوعًا بظهور متحور "كلاد2" من الفيروس، الذي كان أكثر فتكًا وانتشارًا من السلالات السابقة، وكان هناك تأثير كبير على الرجال المثليين والرجال الذين مارسوا الجنس مع عدة شركاء، مما أثار قلقًا كبيرًا في الأوساط الصحية الدولية.
مع انتقال الفيروس إلى مناطق جديدة، مثل بعض البلدان الأوروبية والأمريكية، أصبحت الحاجة إلى إجراءات وقائية واستجابة سريعة أمرًا ملحًا.
الأثر العالمي لتفشي جدري القردة يتجاوز مجرد الأرقام والإحصائيات. فالأزمة أثرت بشكل مباشر على الأنظمة الصحية في الدول المتضررة، ووضعت ضغوطًا كبيرة على الموارد الطبية المحدودة.
وأسفرت عن تجارب مؤلمة للعائلات والمجتمعات، مع تسجيل حالات من القلق والخوف حول انتشار المرض، وتبرز الأزمات الصحية من هذا النوع الحاجة إلى تعزيز الأنظمة الصحية العالمية، وتعزيز التنسيق بين الدول، وتوفير التمويل الكافي للبحث والتطوير في مجال اللقاحات والعلاجات.
في سياق الأزمة، تظل الجهود الدولية موجهة نحو احتواء الفيروس، مع التركيز على تطوير لقاحات فعالة وتوفيرها للدول المتضررة، في الوقت الذي نواجه فيه تحديات جدري القردة، تظل الإنسانية على المحك، وتبقى الحاجة إلى التضامن والتعاون العالمي في التصدي للأزمات الصحية أكثر أهمية من أي وقت مضى.
حقوق الإنسان في زمن الطوارئ
وقال الحقوقي الأردني البارز، نضال منصور، إن إعلان الهيئة الصحية التابعة للاتحاد الإفريقي حالة طوارئ، يمثل خطوة ضرورية في مواجهة تهديد صحي عالمي يطال الأفراد والمجتمعات على حد سواء إلا أن هذا الإعلان، رغم كونه تصعيدًا حاسمًا، يستدعي أيضًا النظر في أبعاده الحقوقية لضمان احترام حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية في الاستجابة لهذه الأزمة.
وتابع منصور، في تصريحاته لـ"جسور بوست"، الصحة حق أساسي ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر الصحة الجيدة شرطًا أساسيًا للتمتع بالحقوق الأساسية الأخرى، ومن هذا المنطلق، تبرز الحاجة إلى ضمان الوصول العادل إلى الرعاية الصحية للمرضى والمجتمعات المتأثرة، فالإعلان عن حالة الطوارئ يجب أن يترافق مع إجراءات ملموسة لضمان توفير العلاج واللقاحات للمحتاجين، وخاصة في المناطق الريفية والنائية حيث قد تكون الخدمات الصحية أقل توفرًا، وهذا الالتزام يتوافق مع المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تؤكد على حق كل فرد في مستوى معيشي مناسب يضمن الصحة والرفاهية.
وأكد الحقوقي البارز أن الوضع الحالي يتطلب ضمان حقوق الأفراد في الخصوصية والأمان، يجب أن تضمن الاستجابة للوباء حماية البيانات الشخصية وعدم استخدام الأزمة كذريعة لتقليص الحقوق الفردية، فحتى في أوقات الطوارئ، تظل حقوق الأفراد، مثل الحق في الخصوصية وحماية المعلومات الشخصية، مطلبا واجبًا احترامه. منوها بأن الكشف غير المبرر عن حالات الإصابة أو تفاصيل الأشخاص المصابين يمكن أن يؤدي إلى وصم اجتماعي وزيادة التمييز، مما يعرض الأفراد لمخاطر إضافية، ومن الضروري أن تتضمن الاستجابة للوباء تدابير لضمان عدم التمييز في الوصول إلى الرعاية الصحية.
واسترسل، يشدد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حق جميع الأفراد في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية دون تمييز في سياق الأزمة الصحية الراهنة، يجب أن تكون الاستجابة فعالة وغير متحيزة، مع الأخذ بعين الاعتبار الفئات الضعيفة مثل الأطفال وكبار السن والأشخاص ذوي الإعاقة. يتطلب ذلك تنسيقًا محكمًا بين الحكومات والمنظمات غير الحكومية لضمان وصول المساعدات إلى جميع المتضررين دون تمييز.
وأوضح منصور، أنه يجب أن تتضمن الاستجابة للوباء ضمان المشاركة المجتمعية والتعاون، حيث يشدد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حق الأفراد في المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتهم، لذلك من الضروري أن تشمل الاستجابة الصحية العامة إشراك المجتمعات المحلية في عملية اتخاذ القرار، من خلال توفير المعلومات الكافية والتشاور مع قادتها هذا يضمن أن تكون الإجراءات المتخذة مناسبة للسياق المحلي وتعزز من فعالية التدابير المتبعة.
واستكمل، تبرز الحاجة إلى ضمان الشفافية والمساءلة في جميع مراحل الاستجابة للوباء. وإن الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية العامة يجب أن يترافق مع نشر معلومات واضحة وصحيحة حول طبيعة الأزمة والإجراءات المتخذة فهذا يساهم في تعزيز ثقة الجمهور ويساعد في توجيه الجهود بشكل أكثر فاعلية.
وأتم، إعلان حالة الطوارئ الصحية العامة بسبب جدري القردة يمثل لحظة حاسمة في الجهود العالمية لمكافحة هذا التهديد الصحي، ومع ذلك، فإن الحفاظ على حقوق الإنسان وتعزيز العدالة الاجتماعية يجب أن يكونا في قلب الاستجابة لهذه الأزمة، من خلال ضمان الوصول العادل إلى الرعاية الصحية، وحماية الخصوصية، ومكافحة التمييز، وتشجيع المشاركة المجتمعية، وضمان الشفافية، بما يمكننا من تعزيز استجابة فعالة تعكس التزامًا حقيقيًا بحقوق الإنسان في أوقات الأزمات.
نضال منصور
حماية الإنسانية
وقالت الأكاديمية السورية والحقوقية البارزة، ترتيل درويش، إن إعلان حالة الطوارئ الصحية العامة بسبب تفشي مرض جدري القردة يثير جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية، حيث يأتي هذا القرار في وقت يتزايد فيه القلق حول التداعيات الإنسانية والصحية لهذا الوباء، ويحمل هذا الإعلان دلالات مهمة تتجاوز مجرد تصنيف الحالة على أنها طوارئ صحية عامة، ويبرز الحاجة الملحة إلى استجابة عالمية منسقة وشاملة.
وانتقدت درويش، في تصريحاتها لـ"جسور بوست" الوضع الراهن قائلة، إنه يعكس فشل النظم الصحية في مواجهة تهديدات الأمراض المعدية بفاعلية، ويضع تسليط الضوء على قضايا أساسية تتعلق بالعدالة الصحية وحقوق الإنسان، مضيفة إن تفشي مرض جدري القردة يعيد إلى الواجهة مسألة الوصول إلى الرعاية الصحية الجيدة والعادلة، وهي قضية محورية في حقوق الإنسان، فمن الواضح أن الأشخاص الأكثر تضرراً من هذا المرض هم الأشد ضعفاً، مثل الأطفال والذين يعيشون في مناطق نائية أو فقيرة، مما يعكس فجوة كبيرة في توفير الرعاية الصحية المتكافئة.
وتابعت، تتطلب الاستجابة لمثل هذه الطوارئ الصحية من جميع الأطراف المعنية أن تعطي الأولوية لحقوق الإنسان، وتضمن أن تكون الاستجابة متاحة وعادلة، ينبغي أن تشمل هذه الاستجابة تقديم الدعم الطبي الكافي، وضمان وصول اللقاحات والعلاج إلى الفئات الأكثر احتياجاً، وتعزيز التوعية والتثقيف حول كيفية الوقاية من المرض في هذا السياق، من الضروري أن تكون أي استجابة للطوارئ الصحية حساسة لحقوق الأشخاص المتأثرين وتعمل على حماية كرامتهم وسلامتهم.
ترتيل درويش
وأشارت خبيرة حقوق الإنسان إلى أن البيانات المتعلقة بجدري القردة تُظهر أن نسبة الوفيات مرتفعة نسبياً، وأن الفئات الضعيفة تتعرض لأشد المخاطر، هذه الحالة تستدعي تحركاً عالمياً يتجاوز حدود التبرعات الطارئة والمساعدات الإنسانية، ويشمل استثماراً في النظم الصحية المحلية وتعزيز قدرتها على التعامل مع مثل هذه الأزمات، كما يتعين على المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات ملموسة لتعزيز البحث العلمي وتطوير اللقاحات والعلاجات، وضمان توزيعها العادل دون تمييز، مؤكدة أن توجيه الموارد والتمويل بشكل استراتيجي من شأنه أن يسهم في الحد من تأثيرات هذا الوباء على المجتمعات الأكثر ضعفاً.
وأتمت، إن إعلان حالة الطوارئ الصحية العامة بسبب تفشي جدري القردة هو تذكير صارخ بأن الصحة العامة والحقوق الإنسانية مترابطتان بشكل وثيق، يتطلب التغلب على هذا التحدي التزاماً قوياً من قبل الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني لضمان توفير استجابة إنسانية وعادلة تراعي حقوق الأفراد في جميع أنحاء العالم.